فصل: معنى الرزق في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال في الميزان:

قوله تعالى: {وترزق من تشاء بغير حساب} المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون قوله: {وترزق} الخ بيانا لما سبقه من إيتاء الملك والعز والإيلاج وغيره فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن قوله: {بيدك الخير} بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل والمعنى أنك متصرف في خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.

.معنى الرزق في القرآن:

الرزق معروف والذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق الملك الجندي ويقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة رزقة وكان يختص بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} [البقرة- 233] فلم يعد الكسوة رزقا.
ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ والجد وإن لم يعلم معطيه ثم عمم فسمى كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقا وإن لم يكن غذائا كسائر مزايا الحياة من مال وجاه وعشيرة وأعضاد وجمال وعلم وغير ذلك قال تعالى: {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين} [المؤمنون- 72] وقال فيما يحكى عن شعيب {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا} [هود- 88] والمراد به النبوة والعلم إلى غير ذلك من الآيات.
والمتحصل من قوله تعالى: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات- 58] والمقام مقام الحصر.
أولا أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: {والله خير الرازقين} [الجمعة- 11] حيث أثبت رازقين وعده تعالى خيرهم وقوله: {وارزقوهم فيها واكسوهم} [النساء- 5] كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك والعزة لله تعالى لذاته ولغيره بإعطائه وإذنه فهو الرزاق لا غير.
وثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم والله رازقه ويدل على ذلك مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها آيات كثيرة أخر كالآيات الدالة على أن الخلق والأمر والحكم والملك بكسر الميم والمشيئة والتدبير والخير لله محضا عز سلطانه.
وثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب إليه تعالى لأنه تعالى نفي نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع قال تعالى: {قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون} [الأعراف- 28] وقال تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} إلى أن قال: {وينهي عن الفحشاء والمنكر} [النحل- 90] وحاشاه سبحانه أن ينهي عن شيء ثم يأمر به أو ينهي عنه ثم يحصر رزقه فيه.
ولا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع وكونه رزقا بحسب التكوين إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا وما بينه القرآن من عموم الرزق إنما هو بحسب حال التكوين وليس البيان الالهي بموقوف على الافهام الساذجة العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية وفي القرآن شفاء لجميع القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا} [الإسراء- 82].
على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود وفرعون والأموال والزخارف التي بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم ذلك امتحانا وإتماما للحجة وخذلانا واستدراجا ونحو ذلك وهذا كله نسب تشريعية وإذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة التكوينية التي لا مجال للحسن والقبح العقلائيين فيها أوضح.
ثم أنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} [الحجر- 21] وذكر أيضا أن ما عنده فهو خير قال تعالى: {وما عند الله خير} [القصص- 60] وانضمام الآيتين وما في معناهما من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم ويتلبس به مدى وجوده فهو من الله سبحانه وهو خير له ينتفع به ويتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: {الذي أحسن كل شيء خلقه} [الم السجدة- 7] مع قوله تعالى: {ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو} [المؤمن- 64].
وأما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته وإضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى آخرين وبالنسبة إلى علله وأسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى: {وما أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء- 79] وقد مر البحث عن هذا المعنى فيما مر.
وبالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير وكله خير ينتفع به يكون رزقا بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق وربما أشار إليه قوله تعالى: {ورزق ربك خير} [طه- 131].
ومن هنا يظهر أن الرزق والخير والخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور متساوية فكل رزق خير ومخلوق وكل خلق رزق وخير، وإنما الفرق أن الرزق يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه والغاذية رزق للواحد من الإنسأن لاحتياجه إليها والواحد من الإنسان رزق لوالديه لانتفاعهما به وكذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه النعمة الإلهية قال تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه} [طه- 50].
والخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه وتختاره إذا أصابته والقوه الغاذية خير للإنسان ووجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا وأما الخلق والإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه وكذا القوة الغاذية مخلوقة والإنسان مخلوق.
ولما كان كل رزق لله وكل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية وما أفاضه من خير وما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض وبلا شيء مأخوذ في مقابله إذ كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقا ولا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق قال تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود- 6].
وقال تعالى: {فورب السماء والأرض أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} [الذاريات- 23].
فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.
ومن هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه ويعاقبه عليه.
وتوضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة التي له على خلقه وكما أن الرحمة رحمتان رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن وكافر ومتق وفاجر وإنسان وغير إنسان ورحمة خاصة وهي الرحمة الواقعة في طريق السعادة كالإيمان والتقوى والجنة كذلك الرزق منه ما هو رزق عام وهو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده ومنه ما هو رزق خاص وهو الواقع في مجرى الحل.
وكما أن الرحمة العامة والرزق العام مكتوبان مقدران قال تعالى: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان- 2] كذلك الرحمة الخاصة والرزق الخاص مكتوبان مقدران وكما أن الهدى وهو رحمة خاصة مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا كان أو كافرا ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات- 58].
وقال تعالى: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء- 23] فالعبادة وهى تستلزم الهدى وتتوقف عليه مقضية مقدرة تشريعا كذلك الرزق الخاص هو الذي عن مجرى الحل مقضى مقدر قال تعالى: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} [الأنعام- 140].
وقال تعالى: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء} [النحل- 71].
والآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر والمؤمن ومن يرتزق بالحلال ومن يرتزق بالحرام.
ومن الواجب أن يعلم أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال وهو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه هو الذي أكله والزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة الرزق وضيقه غير كثرة المال مثلا وقلته وللكلام في الرزق تتمة ستمر بك في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} [هود- 6].
ولنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: {وترزق من تشاء بغير حساب}.
فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى حال المرزوقين بلا عوض ولا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى.
وأما كون نفى الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود ولا مقدر فيدفعه آيات القدر كقوله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر- 49].
وقوله: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا} [الطلاق- 3].
فالرزق منه تعالى عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى. اهـ.

.قال صاحب الأمثل:

{وترزق من تشاء بغير حساب} هذه الآية تعتبر من باب ذكر العام بعد الخاص، إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي، أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النِعم على وجه العموم، أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله، بل بيده كلّ أنواع الرزق والنِعم أيضا.
وتعبير {بغير حساب} يشير إلى أنّ بحر النِعم الإلهية من السعة والكبر بحيث أنه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات. فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان. فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئًا، لئلاّ تتبدّد ثرواتهم. أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده، ولا أحد يحاسبه، ولا حاجه له بالحساب.
يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة. اهـ.

.قال في روح البيان:

قال الحجاج بن يوسف حين قيل له: لم لا تعدل مثل عمر رضى الله عنه وأنت قد أدركت خلافته أفلم تر عدله وصلاحه؟
فقال في جوابهم: تَبَذَّروا أتَعَمَّر لكم. أي: كونوا كأبي ذر في الزهد والتقوى أعاملكم معاملة عمر في العدل والإنصاف وفيه إشارة إلى أن الولاة إنما يكونون على حسب أعمال الرعايا وأحوالهم صلاحا وفسادا فعلى كل واحد من المسلمين التضرع لله تعالى والإنابة إليه بالتوبة والاستغفار عند فشّو الظلم وشمول الجور ويظهر جور الوالى وعدله في الضرع والزرع والأشجار والأثمار والمكاسب والحرف يعنى يقل لين الضرع وتنزع بركة الزرع وتنقص ثمار الأشجار وتكسد معاملة التجار وأهل الحرف في الأمصار التي ملك فيها ذلك الملك الجائر بشؤم ظلمه وسوء فعله ويكون الأمر على العكس إذا عدل ولما ولى عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاووس إن أردت أن يكون عملك خيرا كله فاستعمل أهل الخير فقال كفى بها موعظة. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى}، وكذلك في سورة يونس: {أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى}، وكذا في سورة الروم وحيث وقع ورود في سورة الأنعام: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحى من الميت ومخرج الميت من الحى} فوقع هنا اسم الفاعل موقع الفعل وعاقبه فقال: {ومخرج} فيسأل عن هذا؟
ووجه ذلك والله أعلم: أن بناء آية الأنعام على آية بنيت على اسم الفاعل وان كان خبرا وهو قوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} ثم أعقب ذلك بقوله: {فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا}، فلما اكتنفت الآية أسماء فاعلين جئ فيها باسم الفاعل في قوله: {ومخرج الميت من الحى} ليناسب ذلك فعطف {ومخرج} على {فالق} إذ هو معطوف على ما عطف عليه فهو معطوف عليه ثم جئ بعد باسم فاعل وهو قوله تعالى: {فالق الإصباح} فتناسب هذا ولم يقع في الأخر المتضمنة إخراج الحى من الميت والميت من الحى مثل هذا فلذلك لم يعدل إلى اسم الفعل والله سبحانه أعلم.
فإن قلت فما بال قوله يخرج الحى من الميت في هذا الموضع ورد بالفعل وقد اكتنفه قوله: {فالق الحب والنوى ومخرج الميت من الحى}. وهما اسما فاعلين؟
فالجواب عن ذلك ما قاله الزمخشرى قال: موقع قوله: {يخرج الحى من الميت} موقع الجملة المبينة لقوله: {فالق الحب والنوى} لأن فلق الحب والنوى بالنبات والثمر اليابس من جنس إخراج الحى من الميت لأن اليابس في حكم الحيوان ألا ترى قوله: {يحيى الأرض بعد موتها}، انتهى قوله، ذكر هذا عقب قوله: {ومخرج الميت من الحى} أنه معطوف على فالق الحب والنوى كما تقدم وهذا من حسناته. اهـ.